سكاي ميضار الطو
موقف الحكومة الحالية من المشروع التنظيمي لإصلاح القانون الجنائي، بالتماطل في إدراج أفعال تعتبر من صميم جرائم الفساد وآليات محاربتها، ليس بالموقف المفاجئ ولا بالمثير للاستغراب، بالنظر إلى طبيعة الحكومة نفسها، وإلى موقف بعض الوزراء الذين كانوا أعضاء في الحكومة السابقة، حيث لا يخفون اعتراضهم على المشروع المذكور، وذلك، لكون ظاهرة الفساد بتعقيداتها القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك، تعتبر من الوسائل المستعملة التي كادت أن تكون مهيكلة وبنيوية في المجتمع.
وبحكم أنها تتنافى مع مصالح الطبقات المهيمنة، جعلها ذلك لا تنسجم مع طبيعة الحكومة وقناعات الأحزاب المكونة لها. بدليل أن وزير العدل نفسه، وفي المدة الأخيرة، تذرع عند سحب مشروع تجريم الإثراء غير المشروع، بكونه مخالفا لقرينة البراءة، لأنك مطالب بإثبات من أين حصلت على الأموال؟ ونسي أن المطلوب هو إثبات مشروعية الحصول على الأموال، وليس مجرد الحصول عليها.
ويمكن تصنيف قانون الإثراء غير المشروع ضمن القوانين الرئيسية المكونة لترسانة قوانين مكافحة الفساد. وهو يسائل بشكل عام كُل موظف دولة بمفهوم قانون المسطرة الجنائية، عجز عن الرد عن سؤال ”من أين لك هذا؟”، ولم يدل بما يثبت مصدر مشروعية إثرائه الفجائي وزيادة ثورته، بمصادرة أملاكه ومنعه من تقلد الوظائف العمومية.
كما يعتبر هذا المشروع ضمن الآليات الجادة التي تقوي وتنمي وتعزز المواطنة والثقة في النفس وفي المؤسسات والتمسك بالقانون لدى المواطن تجاه الدولة والإدارة. كما يجبر الإدارة على التحلي بسلوك المسؤولية والانفتاح وقبول مبدإ المحاسبة.
وقد سحبت الحكومة، بالفعل، مشروع القانون الجنائي الذي يتضمن تجريم الإثراء غير المشروع، بدعوى أنها بحاجة إلى وقت كافي لإعادة قراءة المشروع والمصادقة عليه في مجلس الحكومة، بما يتطلب ذلك من استحضار كل الجوانب الايجابية والسلبية. وهو ما يتطلب الوقت الكافي، الذي لم يتوفر لديها حتى الآن، رغم مرور نصف ولايتها! رغم أن مسألة المطالبة بضرورة المصادقة على مشروع القانون رقم 10.16، الذي يقضي بتغيير وتتميم مجموعة القانون الجنائي، ويتضمن مادة حول تجريم الإثراء غير المشروع، مثار جدل واسع في المؤسسة التشريعية منذ سنة 2016، لدرجة مبادرة عدد من الهيئات المدنية والحقوقية إلى إطلاق عريضة رقمية للمطالبة بتجريم الإثراء غير المشروع في المغرب ، في سياق تحقيق الانسجام بين المنظومة القانونية الوطنية واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي صادق عليها المغرب ونشرها في الجريدة الرسمية منذ سنة 2007. إضافة إلى عودة النقاش إلى أوجه إثر المصادقة على نص اتفاقية الاتحاد الافريقي لمنع الفساد ومكافحته، المعتمدة بمابوتو في
الموزمبيق. مما يلزم السلطتين التشريعية والتنفيذية على العمل من موقعهما الوظيفي على ملائمة القانون الجنائي مع هذه الالتزامات، سواء الدولية منها أو الوطنية.
لحدود اليوم لا زال تجريم الإثراء غير المشروع في القانون الجنائي حبيس رفوف البرلمان، والأزمة احتدت بين مكونات الحكومة وبين الأغلبية نفسها، التي تباينت رؤياها لطريقة إخراج القانون بصيغة توافقية تخدم مبدأ الحفاظ على مصالح فئة (الأقلية) على حساب من هم يعانون من ويلات وشظايا الفساد.
فمنذ سنة 2020، وفي إطار مناقشة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب لمشروع القانون الجنائي في مقتضاه المتعلق بمكافحة الإثراء غير المشروع، كان من المنتظر اقتراح مبادرات نوعية من طرف الطبقة السياسية لتدارك الخلل الكبير الذي يشوب هذا المقتضى في صيغته المقدمة من طرف الحكومة، لكن فرق الأغلبية قدمت صيغة تقزم هذه الآلية القانونية، الوقائية والردعية،
وتجعلها دون أي مفعول جدي، حيث يعاب أساسا على هذا الاختيار حصر تجريم الإثراء غير المشروع داخل إطار قانوني محدود في منظومة التصريح بالممتلكات. وهو إطار غير قادر عمليا على كشف ورصد التطور المشبوه للثروة، حيث تشير التجربة إلى أن المؤشرات الموضوعية لاكتشاف التطور المشبوه للثروة متعددة ويمكن أن تساهم فيها عدة مؤسسات وطنية كالمحافظة العقارية وإدارة الضرائب والجمارك ومكتب الصرف والمؤسسات البنكية، وغيرها من الهيئات العامة والخاصة.
وهناك عناصر أخرى تعيق فعالية هذه الآلية وتجعلها عمليا عاجزة عن ملاحقة مظاهر الإثراء غير المشروع، وعن الوصول إلى بؤر الفساد التي تُفرِز هذا الإثراء، ومن ضمنها إرجاء عملية مراقبة التطور المشبوه للثروة إلى غاية نهاية وظائف أو مهام الأشخاص المعنيين. وهو ما يقوض مبدأ راهنية الجزاء. كما أن تنصيب المجلس الأعلى للحسابات كجهةً حصريةً لإثبات الإثراء غير المشروع يسائلنا عن حدود سلطة النيابة العامة في تقدير أدلة الإثبات، فضلا عن كون صلاحيات هذا المجلس تنحصر في مراقبة إنفاق المالية العمومية، باعتباره مؤسسة قضائية، وليس جهازا للتقصي في مجال البحوث الإجرامية.
كما يعاب كذلك في العمل التشريعي بخصوص قوانين مكافحة الفساد، اعتماد آلية ربط القوانين الواحد بالآخر، بدل تكريس قوانين مستقلّة، مع تكامل في الآليات والصلاحيات التي تمنحها. وهو ما يرهن فعالية العديد من القوانين بصدور أخرى متأخرة، ويؤدي، من جهة أخرى، إلى حالة تشرذم في التعريفات المختلفة لجرائم الفساد والعقوبات المرتبطة بها، وفي صلاحيات الهيئات القضائية المختلفة.
هذا، إضافة إلى أن النظام القضائي بشكله الراهن أثبت بشكل قوي أنه عاجز عن الإحاطة ومحاصرة ظاهرة انتشار الفساد، بتجلياته العملية، رغم المجهودات المبذولة من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية لتوسيع مجال السلطة التقديرية، التي هي في حاجة ماسة إلى التأطير الكافي لضمان إرساء منظومة الأمن القضائي الصحيح المرتبط بالعدل والإنصاف. مما يطرح مسألة إعادة النظر فيما يسمى بالسلطة التقديرية. وفي نفس الوقت ضمان الاستقلالية الحقيقية والإيجابية للسلطة القضائية.
وفي خوضه لمعركة مكافحة الفساد والرشوة، عمل المغرب على تعزيز آلياته المؤسساتية والقانونية، ومن ذلك إحداث ”الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها”، بمقتضى الفصل 36 من الدستور. وهو كذلك خرج بعد تردّد كبير.
وإذا كان في صلب هذه المنظومة التشريعية ضرورة إخراج قانون الإثراء غير المشروع إلى حيز الوجود، فإن إعادة النظر في قانون التصريح بالممتلكات وتجريم تضارب المصالح والرفع من العقوبات المتعلقة بجرائم الفساد المالي ومنها جريمة الرشوة أساسية كذلك إضافة إلى أن لا تخضع هذه الجرائم للتقادم.
وجدير بالذكر أن كل هذه الأوراش ذات الطبيعة القانونية التي اعتمدها المُشرّع، لم تبلغ مداها، وحتى تلك التي لا زالت موضوع تداول، كما هو الأمر بالنسبة لمشروع القانون الجنائي، لا تكفي وحدها للتصدي للفساد. فالنص القانوني يحتاج إلى إمكانيات مادية وبشرية، وإلى حكامة مؤسساتية قوية قادرة على التنزيل والتفعيل الحقيقي للقانون.
وهو جهد مؤسساتي يحتاج كذلك إلى إرادة سياسية حقيقية وإلى مناخ يسمح بممارسة هيئات الحكامة لمهامها، لأن الفساد في المغرب أضحى معطى بنيويا ومنظومة بنيوية معقدة يصعب مواجهته فقط بالترسانة القانونية وبالآليات المؤسساتية لوحدها - رغم أهميتها -. لأن الأمر يتطلب مشاركة المواطنين بتأمين وضمان حق حرية الكلمة وحق التمسك بالقانون دون خوف أو إكراه، وهو ما يتطلب المزيد من الجهد في تعبئة الرأسمال البشري والاستثمار فيه لتحقيق الحدود الدنيا لقيمة وفضيلة المواطنة.
عبد اللطيف أعمو (سياسي ونقيب سابق لهيئة المحامين